عندما أسقطت الدولة العثمانية دولة المماليك في سنة 923هـ/1517م في أيام السلطان سليم الأول.
وأصبحت مصر تحت السيادة العثمانية، لم يرد العثمانيون أن يغيروا ولاية مصر، فجعلوا المماليك هم ولاة مصر؛ لأنهم أعلم بأحوال البلاد من العثمانيين. وسار المماليك بصورة حسنة.
ولم يظهر منهم خلاف على العثمانيين، حتى كان عهد الوالي "علي بك الكبير" الذي كان عميلًا للروس، فأراد إحداث ثورة استقلالية في مصر سنة 1182هـ/ 1769م.
ولكن نائبه "محمد أبو الدهب" استطاع القضاء على هذه الحركة التي أظهرت ضعف السلطة العثمانية؛ مما سهل على أعداء العثمانيين التربص بهم والانقضاض على أطراف الدولة العثمانية.
وبالفعل، انقض الفرنسيون بحملة كبيرة على مصر في سنة 1213هـ/ 1799م، وقامت ثورات متتالية عليهم قادها العلماء ومشايخ الأزهر ضد الفرنسيين الذين أحدثوا هزة حضارية وهزيمة نفسية في قلوب المسلمين في مصر وغيرها، واستمرت المقاومة الضارية حتى خرج الفرنسيون في سنة 1216هـ/ 1802م.
وحدث فراغ في السلطة داخل مصر؛ نتيجة لصراع المماليك على الحكم، وانقسامهم على أنفسهم، فبعضهم يسعى إلى السيطرة على الحكم في البلاد والوصول إلى السلطة بدعم من إنجلترا، التي بدأ شعورها يتنامى بأهمية مصر.
وخشيت من عودة النفوذ الفرنسي إليها، ومن ثَمَّ فقد حرصت على أن توطد أقدامها في مصر، وأن يكون أصحاب السلطة فيها من الموالين لها؛ فسعت إلى تأييد تلك الطائفة من المماليك ومعاونتها على الوصول إلى الحكم.
أما الفريق الآخر فكان يرى أنه يمكنه الاستقلال بالحكم دون مساعدة من أية قوى خارجية، وذلك بإيجاد نوع من التحالف والتنسيق بين بعض قوى المماليك ذات المصالح المشتركة، والأهداف المتقاربة.
ظهور القوى الشعبية والزعامات الوطنية:
وظهرت قوة أخرى في مصر لا تقل نفوذًا ولا تأثيرًا عن المماليك الذين بدأت قواهم تخور وشوكتهم تضعف؛ نتيجة الصراع الدائم بينهم والمؤامرات المستمرة.
ولكن الدولة العثمانية عينت "خسرو باشا" واليًا على مصر؛ مما أثار غضب المماليك، الذين رأوا أنهم أحق بالسلطة منه.
وكذلك غضب العلماء ومشايخ الأزهر الذين قادوا المقاومة الشعبية وطردوا الفرنسيين؛ لأنهم لم تتم مشورتهم في ولاية مصر.
وكذلك دخل الإنجليز طرفًا في اللعبة عندما حرضوا المماليك على معارضة الوالي الجديد "خسرو باشا"؛ مما دفع العثمانيين لتشديد الحصار على المماليك، مما أدى إلى حالة من الرفض الشعبي للوالي الجديد "خسرو باشا".
مما أدى به في النهاية إلى الهروب من مصر، ثم تعيين "طاهر باشا" مكانه، وكان رئيس الفرقة الألبانية، الذي ما لبث أن قُتل، فاشتعلت مصر كلها، وتم تعيين "أحمد باشا" واليًا على مصر، ولكن ثار عليه العلماء والمشايخ لما كان له من دور في قتل الوالي السابق "طاهر باشا".
وأخيرًا استقر رأي العلماء والمشايخ والقيادات الشعبية في مصر على تعيين "محمد علي" الألباني واليًا على مصر، بعد أن حلف للعلماء بأنه لن يقطع أمرًا دونهم، وذلك في 12 صفر سنة 1220هـ/ 1806م.
وسعت تلك القيادات إلى تثبيت دعائم حكم محمد علي لمصر، فقادوا حملة لجمع التبرعات وتدبير الأموال اللازمة لدفع المرتبات المتأخرة للجنود الذين بدأ التمرد يسري بينهم، كما كان لتلك القيادات دور مهم في الإبقاء عليه واليًا للبلاد رغم محاولات "الباب العالي" نقله من مصر.
وكان لتحالف تلك القيادات الوطنية ومن حولها جموع الشعب مع محمد علي أكبر الأثر في إلحاق الهزيمة بالحملة العسكرية الإنجليزية التي ضمت نحو أربعة آلاف جندي قرب رشيد، في (18 من المحرم 1222هـ/ 29 من مارس 1807م)، والتي جاءت لتأييد بعض عناصر المماليك، وتمكينهم من الوصول إلى الحكم في مصر؛ ليكونوا أعوانًا لهم.
وكان محمد علي ذكيًّا طموحًا ذا إمكانيات هائلة وحسن تخطيط ودهاء شديد، فرأى لما استقر له الأمر في مصر -وكان يضمر مسألة الاستقلال بمصر والشام وإنشاء أسرة ملكية منه ومن ذريته من بعده- رأى محمد علي أن أمامه عدوين لا بد من أن يتخلص منهما حتى ينشئ الدولة الحديثة التي يحلم بها؛ العدو الأول هم العلماء ومشايخ الأزهر الذين رأى فيهم العائق الأول في طريق تحقيق الدولة الحديثة على النمط الأوربي؛ لما كان للعلماء من قوة دينية وروحية على الشعب المصري.
فبدأ محمد علي في الترهيب والترغيب والاستمالة والتهديد، وأخيرًا نفى قائدهم "عمر مكرم" إلى دمياط، واستمال إلى جانبه عددًا من مشايخ الأزهر المفتونين بالحضارة الأوربية أمثال الطهطاوي والعطار وغيرهما.
مذبحة القلعة:
أما العدو الثاني فهم المماليك، الذين كانوا لا يزالون موجودين على الساحة، وكان لهم دور بارز على مسرح الأحداث منذ الحملة الفرنسية، وحتى تعيين محمد علي، ولقد رأى فيهم محمد علي شوكة في ظهره تستطيع الانقضاض عليه في أي وقت.
فعمل أولًا على إثارة كراهية الشعب المصري لهم بأن ولاّهم جباية الأموال والضرائب؛ مما أدى إلى كراهيتهم عند الشعب المصري، خاصة أن محمد علي كان يظهر في مواقف عديدة أنه غير راضٍ عن سلوك المماليك في جباية الأموال، ولما وصلت الكراهية عند الشعب المصري على المماليك أقصاها، ضرب محمد علي ضربته القاضية للمماليك.
ففي بداية شهر المحرم 1226هـ/ 1811م سافر محمد علي إلى السويس، ليتفقد الأعمال التي كانت تجري في مينائها، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة بعد أن وصلته الأخبار بضبط رسائل مريبة متبادلة بين مماليك القاهرة وزملائهم في الوجه القبلي.
في تلك الأثناء أرسل إليه السلطان العثماني "محمود" يطلب منه إرسال قواته إلى نجد للمساعدة في القضاء على الثورة الوهابية، وعندئذ قرر محمد علي القضاء على المماليك قبل خروج الجيش بقيادة ابنه "طوسون" إلى نجد؛ حتى لا يثوروا ضده بعد خروج الجيش.
فأعد "محمد علي" مهرجانًا فخمًا بالقلعة دعا إليه كبار رجال دولته، وجميع الأمراء والبكوات والكشاف المماليك، فلبى المماليك تلك الدعوة وعدُّوها دليل رضاه عنهم، وكانت في الخامس من صفر بعد صلاة الجمعة سنة 1226هـ/ 1811م.
وقبل ابتداء الحفل دخل البكوات المماليك على محمد علي فتلقاهم بالحفاوة، ودعاهم إلى تناول القهوة معه، وشكرهم على إجابتهم دعوته، وألمح إلى ما يناله ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في الموكب، وراح محمد علي يتجاذب معهم أطراف الحديث؛ إمعانًا في إشعارهم بالأمن والود.
وحان موعد تحرك الموكب، فنهض المماليك وبادلوا محمد علي التحية، وانضموا إلى الموكب، وكان يتقدم الركب مجموعة من الفرسان في طليعة الموكب، بعدها كان والي الشرطة ومحافظ المدينة، ثم كوكبه من الجنود الأرناءود، ثم المماليك، ومن بعدهم مجموعة أخرى من الجنود الأرناءود، وعلى إثرهم كبار المدعوين ورجال الدولة.
وتحرك الموكب ليغادر القلعة، فسار في طريق ضيق نحو باب العزب، فلما اجتاز الباب طليعة الموكب ووالي الشرطة والمحافظ، أُغْلِق الباب فجأة من الخارج في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناءود، وتحول الجنود بسرعة عن الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين.
وراحوا يمطرون المماليك بوابل من الرصاص، أخذت المفاجأة المماليك وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا الفرار، ولكن كانت بنادق الجنود تحصدهم في كل مكان، ومن نجا منهم من الرصاص فقد ذُبِح بوحشية.
وسقط المماليك صرعى مضرجين في دمائهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ولم ينج من المماليك الأربعمائة والسبعين الذين دخلوا القلعة في صبيحة ذلك اليوم إلا واحد يسمى "أمين بك" كان في مؤخرة الصفوف، واستطاع أن يقفز بجواده من فوق سور القلعة، وهرب بعد ذلك إلى الشام.
ووصل خبر تلك المذبحة إلى الجماهير المحتشدة في الشوارع لمشاهدة الموكب، فسرى الذعر بينهم، وتفرق الناس، وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الجميع إلى بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة.
وسرعان ما انتشرت جماعات من الجنود الأرناءود في أنحاء القاهرة يفتكون بكل من يلقونه من المماليك وأتباعهم، ويقتحمون بيوتهم فينهبون ما تصل إليه أيديهم، ويغتصبون نساءهم، وتجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة.
وكثر القتل، واستمر النهب، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من المماليك ونُهب خمسمائة بيت، ولم يتوقف السلب والنهب إلا بعد أن نزل محمد علي إلى شوارع المدينة، وتمكن من السيطرة على جنوده وأعاد الانضباط.
وهكذا استطاع محمد علي الانفراد بالحكم، ولكن على أشلاء المعارضين، وصفت الأمور عندها لمحمد علي لتحقيق حلمه السابق.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام